Go
Search archive
and

Publications

كتابة هذا البحر

عودة" ليلية يقودها الحمام"

010 / 31 August 2017

اديل جرار

 

 

-1-

 

جولة ليلية في منطقة رام الله-البيرة

 

دوماً ما كانت تلفت انتباهي المباني والأبراج العالية في شارع الإرسال.  وهكذا، قررت أن أتسلل للمنطقة مساءً هذا الخريف، ربما لأن المنطقة تبدو مختلفة في مثل هذا الوقت.  نزلت من سيارة النقل العمومي في شارع الإرسال، مقابل مبنى "السفينة".  كانت الساعة تشير إلى الثامنة وبضع دقائق.  نظرت إلى السفينة مطولاً.  إنها المرة الأولى التي انتبه فبها إلى أنها تدير بظهرها بعيداً عن اتجاه الشارع الرئيسي.  ثم بدأت بالالتفاف تدريجياً حول السفينة التي ربما خال مالكها أنها ستنقلنا لبحر يافا، أو ستنقذنا من طوفان ما مقبل.

 

على الجانب الآخر، الذي كنت أراه لأول مرة، كان هنالك موقف للسيارات في فنائها الخلفي، مسيج ومغلق ببوابة معدنية تفضي إلى الشارع العام.  خلال دوراني حولها، تذكرت ما لاحظه صديق لي عن المبنى، وهو أن المصمم أضاف ما يشبه أمواج البحر الحجرية بمستوى طابقه الأول، ما يضع سكان المدينة جميعاً تحت مستوى سطح البحر، أقرب إلى الغرقى.  حين أنهيت دورتي حول السفينة، لم يفاجئني ما وجدته من مستأجرين في الجانب الآخر أيضاً: بضعة محال سوبرماركت، ومحال تجارية في الطابق الأرضي، تضيء واجهاتها لافتات كبيرة وملونة، انعكست ألوان إضاءتها على الشارع الممتد أمامها.  كنت أحمل كاميرا كبيرة بيدي ما جعلني موضع فضول بعض المارة، وربما لأننا معتادون على أن يصورنا غير الفلسطينيين فقط.  عندما اقتربت من مدخل السفينة الذي كان يتوسطها، لاحظت أمامه حارسين، مع أن المبنى يحتوي مكاتب عادية للإيجار، لا مكاتب أمنية أو حكومية.  رفعت الكاميرا لأصور المدخل، فلاحظت اقتراب الحارسين من بعضهما، بجسدين متصلبين، قبل أن يبدآ بالتشاور.  لم أركز كثيراً بنقاشهما، الذي بدا أنه بسبب تصويري المدخل.  وكنت قد أنهيت التقاط الصور قبل أن يتخذا قرارهما.

 

نداء سنقرط، طرّ، عمل أدائي، ٢٠١٦
نداء سنقرط، طرّ، عمل أدائي، ٢٠١٦

 

أكملت مسيري في المنطقة التي لم ألحظ كثيراً من المارة فيها.  كان المكان هادئاً نوعاً ما.  الحضور الرئيسي كان للمباني وللافتاتها وإضاءتها الساطعة، وبضع سيارات تمر بين الحين والآخر.  بعد اجتيازي المفترق المؤدي إلى المركز التجاري "بلازا"، قررت أن أسلك طريقاً فرعياً باتجاه الغرب.  وحال سلوكي إياه، أخذ أحد الأبراج المضيئة الجديدة بالظهور.  في ذلك الطريق الفرعي صادفت دكاناً جديداً ساطع الإضاءة أيضاً، يضيء الشارع بنور أقوى من أعمدة الإنارة الموجودة للغرض ذاته.  كان الشارع ضيقاً نوعاً ما، لذلك فإن نور الدكان، وصل المقعد العام على الطرف المقابل وأناره.  أمامي في الشارع كانت تسير عائلة يبدو على ملامحها بساطة الحال.  ثم طلب الصغير من الأب الذي كان يمشي مستعجلاً أن يربط له حذائه.  عندها افترش الأب وصغيره قطعة مظلمة من الرصيف، دون أن يفكرا البتة بالجلوس على ذلك المقعد.  أنهى الأب ربط حذاء ابنه على عجلة، ثم تابعا مسيرهما ليلحقا ببقية أفراد العائلة.  اقتربت أنا أكثر من البرج الذي بزغ سابقاً.  كانت الإنارة المثبتة على واجهته الخارجية قوية الإشعاع.  رغبت في أن التقط بضع صور.  رفعت الكاميرا، فخالني أنني سمعت أحدهم يصرخ بـ"ممنوع".  أنزلت الكاميرا، عاودت النظر حولي.  لم أجد أحداً، كان البرج خالياً تماماً، والشارع أيضاً.  لمَ الخوف؟ نظرت إلى طرف البرج، الذي حاذاه ممر جانبي كبير يقود إلى الأسفل، باتجاه مصف للسيارات تحت المبنى على ما يبدو.

 

كان الجو قد أصبح أكثر برداً، والظلام أشد حلكة، فقررت أن أواصل المشي.  حين وصلت الشارع الرئيسي مرةً أخرى، شعرت ببعض الارتياح.  من جديد اللافتات المضيئة نفسها، ولم أمر سوى بشخص واحد كان يمشي.  الآن إلى يساري ظهرت منطقة كبيرة مسيجة بلوحات إعلانات، تحمل رسومات معمارية لأبراج قيد الإنشاء، لا تختلف كثيراً عن سابقتها، لا ببرودة مظهرها، ولا بحجمها وارتفاعها المهول، ولا بقسوة ألوانها وملمسها، ولا بإضاءتها الساطعة أيضاً.  شيءٌ ما بمظهر هذه الأبراج قادر على طردك من محيطها.  نظرت شرقاً إلى ما خلف هذه الإعلانات، حيث ظهر بعيداً مبنىً كبير، منار بأضواء عرضية، بيضاء ساطعة، تلتف حول انحناءات جدرانه بدقة مريبة.  عاودت النظر إلى الأمام جنوباً، وأكملت مشيي محاولةً أن أجد طريقاً لسلوكه نحو منطقة ذلك المبنى دون أن أضطر للعودة إلى الطريق الفرعي الذي كنت قد خرجت منه للتو.  وصلت مبنى جديداً قيد الإنشاء على طرف الشارع، تابعاً لسلطة النقد أو شيء من هذا القبيل.  لحظت طريقاً ترابياً واسعاً يصعد باتجاه المبنى الذي وددت بلوغه.  كان الليل قد أصبح حالكاً تماماً، والأصوات باتت خافتة جداً.  تملكني بعض الخوف ثانية في الطريق الخالي.  ومع اقترابي من المبنى، هالني ما رأيت من مساحات كبيرة وشوارع عريضة مبلطة، محيطة بالمباني في تلك الرقعة.  كانت الساحة والطرق المؤدية باتجاهها واسعة جداً، على أطرافها ثلاثة مبان؛ اثنان كنت قد رأيتهما بوضوح من الشارع، إضافة إلى برج مختلف قليلاً، ينتصب وحيداً على الطرف الآخر للساحة.  لم يكن هناك أي أحد في المنطقة كلها.  تعثرت فجأة خلال مسيري على طرف الطريق في الظلام الدامس.  فتوقفت لأتأمل أحد الأبراج، الذي كان على بعد اثني عشر متراً مني تقريباً.  نظرت إلى طوابقه ذات الزجاج الأسود القاتم.  لم أستطع رؤية ما بداخلها.  كانت الطوابق إما مظلمة تماماً وإما إضاءتها خافتة، كما كانت الإضاءة الخارجية المضافة حول المبنى ساطعة لدرجة منعتني من تمييز ما يحدث داخل المبنى.  كنت أظن طوال الوقت أن أحداً ما يقف في الداخل يراقبني، أيضاً، بينما أنا أرقب البرج.  ولم أشعر ولو للحظة أنه مسموح لي التواجد هنا، أو إن هذا المكان عام.  واصلت الوقوف بالظلمة الحالكة، لكن فكرة أن أحداً ما في الداخل يراقبني أفزعتني قليلاً وجعلتني أكمل المسير في أنحاء هذا المحفل المعماري المرعب.  قبل ذلك، درت وأخذت بضع صور على عجلة، على مرأى من الحارسين الواقفين أمام المدخل، ثم سارعت بالابتعاد عنهما، باتجاه البرج الثالث الأبعد، وهو البرج الذي بدا لي مختلفاً قليلاً.  لم يتم تثبيت أي إنارات خارجية عليه، وبعض طوابقه كانت لا تزال مضاءةً.

 

بغتةً، خرج موظف مهرولاً لباحة السيارات وغادرها داخل سيارته بسرعة.  من يعمل حتى هذا الوقت المتأخر؟ كنت أظن أن نظام العمل من الثامنة حتى الخامسة همَّاً بالنسبة لهؤلاء الموظفين، وها أنا أجد من يعمل بعد الثامنة.  مشيت بشكل ملاصق للبرج، حتى أصبح الطريق منحدراً.  في آخر المنحدر هنالك بوابة واسعة جداً، ربما تتسع لعبور شاحنة.  كان سقف الممر خلفها مضاء بصفوف رتيبة من الأضواء الفلورسنتية البيضاء الساطعة، التي أصدرت أزيزاً مسموعاً جداً يكسر هدوء الظلمة.  ثم تملكني فضول شديد راح يدفعني إلى فكرة سلوك الممر هذا الذي يؤدي في العادة إلى موقف السيارات تحت المباني.  دون التفكير أكثر، غافلت الحارس ودخلت.  كلما تابعت المشي داخل الممر الواسع، ازداد المكان برودةً ورعباً.  أزيز إضاءة الفلوريسنت وصوت محركات خفيفة ربما هي محركات أجهزة التدفئة أو التكييف، كانا الصوتين الوحيدين المسموعين هنا بالأسفل.  ثم بدأت أسمع نبضات قلبي أيضاً.  مشيت أكثر، حتى وصلت منحدراً يستخدم لنزول السيارات للطوابق السفلى، وعلى مقربة منه، لمحت درجاً مظلماً ضيقاً.  قررت أن أصعد الدرج.  بدت فكرة أن أرى العالم من أعلى البرج مثيرة في هذا الوقت من الليل.

 

صورة ليلة لمنطقة
صورة ليلة لمنطقة "الإرسال سنتر" الاستثمارية في منطقة الإرسال في مدينة رام الله

 

تابعت الصعود على الدرج رغم الخوف الذي راح يتملكني، حتى وصلت الطابق الأخير الذي قاد إليه.  وهناك لم يكن أي شيء أو أي صوت.  كان عالماً منفصلاً عما رأيته حتى هذه اللحظة في الخارج.  تأملت الطابق الواسع الفارغ، الذي شغل أرضيته الرخام البارد.  خلال وقوفي في هذا العدم، بدأت أسمع صوتاً كالطنين المتواصل.  كان صوتاً جديداً لا يشبه أزيز الإنارة.  رأيت مصعداً في آخر الممر، فقلت لنفسي لما لا؟ ضغطت زر المصعد، وقفت وقلبي ينبض خوفاً من أن يراني أحدهم.  وجودي في جوف هذا البرج الذي ابتلعني لم يبدُ اكثر أمناً من تواجدي بالظلمة التي أحاطت به.  أصدر المصعد صوتا آذن بوصوله.  دخلته، حدقت بالأرقام، واخترت أكبرها.  رغبت حقاً أن أرى المدينة من أعلى نقطة يمكنني وصولها، وكما يراها هذا البرج.  بدأت الأرقام تتزايد على الشاشة الإلكترونية، ثم ظهر الرقم الذي اخترته.  أصدر المصعد الصوت ذاته إيذاناً بالوصول، وانفتح باب المصعد، ثم خرجت.  ليس هناك أحد لحسن الحظ.  الطابق كبير جداً، تشغل جزءاً منه مكاتب قليلة موزعة بشكل خلايا مربعة.  على الجانب الآخر على ما يبدو كانت غرفة المدير، فميزتها أن مساحتها احتلت نصف الطابق.  وراح الطنين يزداد.  اقتربت من الواجهة الزجاجية.  وحين وصلتها، أمكنني وأخيراً رؤية المدينة من أعلى.

 

ظهرت البيوت صغيرة متراصة ضئيلة الحجم مقارنة مع البرج العملاق.  يبدو العالم كله أصغر وأبعد من هنا.  إحساس كبير بالسيطرة راح يسيطر الآن بدل الخوف، مصدره النظر نحو المدينة من منظور مرتفع.  منظور "عين الإله"، أو عين الطير، بلغة السينما.  التفت شمالاً، كانت في البعد أضواء صغيرة متراصة، من نوافذ لامتناهية لبيوت بعيدة، شكّلت سوية بحراً مضيئاً، أكبر وأقوى من إضاءة هذه الأبراج متحدة.  واصلت التحديق في بحر الضوء، أتأمل أمواجه من النور، وهي تتلألأ حتى الأفق.  ثم عندما دققت النظر فيها، للوهلة الأولى ظننت أن خيالي يخدعني، فقد رأيت أنواراً صغيرة زرقاء تتحرك كالطيور فوق بحر الأضواء هذا.  كانت الأضواء تتحرك بسرعة، بطنين راح يشتدّ علواً مع اقترابها من البعيد نحوي، كما ازداد حجمها، وما هي إلا بضع دقائق حتى كانت تلك الغمامة من الأضواء الزرقاء أمامي خلف الزجاج: سحابة كبيرة من طيور الحمام المضيئة بهديل غاضب مسموع! نظرت لها من خلف الزجاج بوجل، كما فعلت هي.  تواصلنا بالنظر للحظات، كنت أنا حبيسة في جوف البرج، بينما هي في الخارج تلهو بحرية.  لم يبدو هذا البرج كأبراج الحمام التي ألفت الطيور رؤيتها.  فجأة انقسمت السحابة في أسراب عدة، توزع الحمام بينها محيطاً بالأبراج الثلاثة، ثم بدأت الحمامات بالنقر المتواصل على الزجاج والضرب بأجنحتها، كعادة الطيور حين تشعر بخطر محدِّق.  أخذ زجاج جميع نوافذ الأبراج بالتساقط متناغماً، إثر نقر الحمام هذا ورفرفته.

 

 

-2-

 

"طر": عمل أدائي للفنان نداء سنقرط

مبنى السفينة في منطقة الإرسال في مدينة رام الله.
مبنى السفينة في منطقة الإرسال في مدينة رام الله

ضمن فعاليات بينالي قلنديا الدولي الثالث (من 5/10 وحتى 15/11/2016)، وكجزء من معرض "عودات"، للقيِّمتين سحر قواسمي وبيث سترايكر، قدم الفنان نداء سنقرط عملاً أدائياً في مخيم الجلزون.  العمل عبارة عن طيور حمام، تم تثبيت أضواء صغيرة وخفيفة عليها، ومن ثم إطلاقها نحو السماء، جعلت الطيور إثرها تتراقص وتتحرك في فضاء المخيم.  عمل نداء، بصرياً، قد يبدو مقارباً في شكله لنوع حديث من الفنون، يسمى "بفنون طائرات بدون طيار" (Drone art) التي تألفها بعض المدن مثل مدينة سيدني في أستراليا، كما تستخدمها بعض الشركات كشركة ديزني خلال تقديمها عروضاً ضوئية تتكون من طائرات صغيرة مضيئة بلا طيار، يتم برمجتها لتقديم رقصات في السماء بمشهدية عالية هدفها إبهار الأبصار.  لكن في عمل نداء سنقرط، كانت تلك رقصة اجتمع بها الصناعي الضوئي بالطبيعي البحت، إضافة إلى التاريخي.  فالحمام له مكانة خاصة في ذاكرة النكبة الفلسطينية.  عندما تم تهجير الناس من بيوتهم، لم يتمكنوا من أخذ الحمام، الذي اعتادوا على تربيته في أبراج طينية أو على أسطح منازلهم، فبقي الحمام وهاجروا هم.  لكن من خصائص الحمام أيضاً قدرته الفائقة على تحديد الاتجاهات والعودة إلى موطنه.  أمام رقصة الحمام الطبيعية تلك في سماء مخيم الجلزون، غير المبرمجة، ولا المكتوبة مسبقاً، إنما هي ما تقوم به الطيور منذ الأزل، تطفو في ذهن المرء الكثير من الأسئلة حول المعاني المعاصرة للعودة، فهل سنجد الحمائم لا تزال بانتظارنا لو عدنا؟

 

 

-3-

 

العودة

هل تعني "العودة" أن علينا أن نعود إلى الوراء؟ وهل يمكن العودة إلى الأمام؟ هذا ما أسأل نفسي فيما أنا أقف أمام نوافذ البرج الزجاجية المحطمة.

 

في السؤال حول العودة، دائماً ما يتبع السؤال "أين نعود؟" لقد ظهر السؤال حول مفهوم العودة بقوة في إطار قلنديا الدولي هذه السنة، الذي حمل عنوان "هذا البحر لي"، ومعرض "عودات"، بشكل خاص، يتناول مفهوم العودة في إطار خاص يمتزج فيه البعد السياسي بالبعد المديني والتنظيمي للمدينة.  بالتحديد، يتناول المعرض، وبفلسفة خاصة، مفهوم العودة خارج النص السياسي، حين يمتد هذا المفهوم ليكون جزءاً من النص الحضري، مغطياً هوامش ومناطق تود المدينة إحياءها وبث الحياة فيها، مثل بلدة رام الله القديمة، في مواجهتها للمباني الجديدة الهائلة التي تجتاح باقي أجزاء المدينة.  أسئلة إضافية تثيرها فكرة المعرض، تتعلق بارتباط العودة بخط زمني ما، والتفكير بالفائدة المرجوة مثلاً من إعادة إحياء ما تم هجره، إذا اعتبرنا أن الهجران جزء من التاريخ، وحدث طبيعي، لأن الناس، ربما، لم يعودوا بحاجة لأن يزوروا ذلك البيت أو المنطقة "قليلة الاستخدام"، لأسباب تستدعي الوقوف عندها والبحث فيها.  فهل يرتبط مفهوم العودة بجزء معين من مدينة رام الله، كالبلدة القديمة، بينما نتجاهل تماماً ما يحدث الآن على الجانب الآخر من رام الله، كمنطقة الإرسال مثلاً، ذلك الفضاء النيوليبرالي الناشئ كالفطر؟ ثم ظهور مدن جديدة بالكامل كـ روابي؟ ما يحدث هناك هو جزء من حاضرنا ومن معاصرتنا أيضاً.  إنها عوالم جديدة تنشأ على مرأى منا وبدون الكثير من التدخل من طرفنا.  بل هناك اختفاء للإنسان من الصورة حول ذلك النوع من العمارة.  ها هي كل المساحات المحيطة بالأبراج التجارية، لا يسكنها أحد، ولا يتواجد حولها أحد، كما لو أننا نشعر بعدم قدرتنا على التواجد في حيزها، وفوق الشوارع المؤدية إليها، أو حتى الجلوس على أحد المقاعد الخشبية الموضوعة على أرصفتها.

 

يقول جورجيو أغامبن "إن المعاصرة هي علاقة فريدة بين الإنسان والوقت، فهو يلتصق أو يتحد بهذا الوقت، ومع ذلك، يترك مسافة بينه وبين نفسه، إنه الاتصال مع الوقت عن طريق الانفصال عنه، وإيجاد الفروق معه".  إنها هي تلك المسافة التي قد تتيح لنا نقد ما يجري، وأن نرى الصورة الزمنية كاملةً مع عيشها في الوقت نفسه.  يضيف أغامبن، أيضاً، أن "المعاصر هو من يحدق في وقته الحالي ليس ليرى النور، بل ليلتقط منه ظلاميته".

 

إن الحديث عن العودة، مثله مثل قضايا مركزية مشابهة، هو محفز ومعرض للحديث عن الهوية الفلسطينية المعاصرة، التي تتشكل، أيضاً، بدون ارتباطها بفضاء أو جغرافيا واحدة بعينها.  فالهوية الفلسطينية في الوقت الحالي، تتشكل، أيضاً، في سوريا، وفي لبنان، وفي الأردن، وبلدان أخرى في المهجر؛ باختصار، أينما وجد "الفلسطيني" اليوم.  تلك الفردية التي تحظى بها هويتنا، كشعب تحت الاستعمار، يتطلب منا أحياناً أن نترك الماضي قليلاً، وأن نتلفت إلى ما هي عليه "هويتنا" في الحاضر، وهو دور للفنان الفلسطيني مساهمة كبيرة فيه.  فالفنانون الفلسطينيون، يمرون بما مر به فنانون خضعوا لتجربة استعمارية مريرة مماثلة، كالفنانين الجزائريين الذين مروا بمراحل من ردات الفعل، ومحاولات حثيثة للإظهار للمستعمر أن لدى المستعمَر تاريخاً طويلاً وهويةً عميقةً تمتد جذورها إلى آلاف السنين، التي تلي في العادة مراحل من تقليد المستعمر والانصياع لطرقه في الفن والتعبير.  وفعلاً يتضمن الوقت الحالي محاولات فنية في التفكير في هوية فلسطينية معاصرة، لا تربط نفسها بزمن أو مكان خطي أفقي، إنما بما يحدث حالياً، والتعامل معه عبر إظهار روابطه المعاصرة، أي بتشبيك التاريخ مع الحاضر، وليس الماضي فحسب.

 

من الجلي أن معرضاً مثل معرض "عودات" الذي وجدنا فيه عمل نداء سنقرط في مخيم الجلزون، يطرح الكثير حول مفهوم العودة المعاصر.

 

منطقة الإرسال سنتر الاستثمارية، شرق شارع الإرسال الرئيسي في مدينة رام الله
منطقة الإرسال سنتر الاستثمارية، شرق شارع الإرسال الرئيسي في مدينة رام الله

 

 

عن المؤلفة

 

اديل جرار (عن المؤلفة، 1992) معمارية شابة، حازت على شهادة البكالوريوس في الهندسة المعمارية من جامعة بيرزيت، عملت كمساعدة بحث وتدريس في دائرة الهندسة المعمارية في جامعة بيرزيت، ومساعدة قيم معرض في متحف جامعة بيرزيت. مهتمة بدراسة العلاقة التشابكية بين التصميم والنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة.