Go
Search archive
and

Publications

كتابة هذا البحر

مدن 5 | غزة، باللون الأحمر

010 / 31 August 2017

لبنى طه

 

غازي بركات، غزة، ٢٠١٦، عمل صوتي تركيبي، معرض المدن ٥ “غزة - اعادة اعمار”، قيم المعرض يزيد عناني، متحف جامعة بيرزيت
غازي بركات، غزة، ٢٠١٦، عمل صوتي تركيبي، معرض المدن ٥ “غزة - اعادة اعمار”، قيم المعرض يزيد عناني، متحف جامعة بيرزيت

 

كيف يمكن بناء فكرة ما وتدميرها ومن ثم محاولة الحفاظ عليها لإعادة تشكيل ما تبقى منها وأخيراً التعايش معها؟ تبدو غزة هي تلك الفكرة التي تكونت وتبلورت وتسيَّست واستخدمت في سياقات مختلفة للدفاع عن شيء ما، أو فكرة ما.

 

بالنسبة لي، كانت غزة واحدة من المواضيع الكثيرة التي مرت بين حين وآخر في فصول الكتب المدرسية في صغري، والتي كانت على الرغم من قربها الجغرافي، لم تخرج عن نطاق المتخيل لدي، كوني لم أكن قادرة على زيارتها أو التجوال في شوارعها وبين مبانيها أو على شواطئها.  في تلك الحقبة الزمنية من حياتي، بدا التعليم حولها أشبه بالشعارات التي تتردد لترسيخ فكرة ما، أو شعور ما.  كانت غزة آنذاك كما يلي:

 

معلمة الجغرافيا: "غزة هي مدينة فلسطينية تقع على ساحل المتوسط وتشكل جزءاً من الحدود الفاصلة بين فلسطين ومصر، كما تفصل بين قارتين من قارات العالم القديم: آسيا وأفريقيا.  لذلك، فان موقع مدينة غزة له أهمية عظيمة، ليس لفلسطين فحسب، ولكن للعالم بأكمله".

 

أو كما يلي:

 

معلمة التاريخ: "تقع مدينة غزة على أكثر من خط تجاري قديم، كما كانت تربط بين ممالك العالم القديم".

 

وأحياناً كما يلي:

 

معلمة الثقافة الإسلامية: "تشكل مدينة غزة جزءاً مهماً من وجدان العالم الإسلامي.  لماذا؟ لأن والد الرسول محمد كان يأتي إليها سنويا بغرض التجارة".

 

هذه هي الصور التي تم رسمها عن غزة في ذلك الوقت، ولم تساهم سوى بجعل المدينة تبدو أشد بعداً وضبابيةً، لي ولأبناء جيلي.  كانت هذه الصور الغالبة حتى العام 2007، حيث حلّ تحول جذري في مضمون الصور النمطية للمكان.  الآن أصبحت غزة المكان الذي يحوي وجوداً سياسياً فلسطينياً مغايراً عما عهده الشارع الفلسطيني، كما أصبح أكبر سجن بشري في العالم، وأكثر الأماكن كثافة سكانية واكتظاظاً، والأكثر فقراً، وأخيراً مكاناً للحرب والدمار اللامتناهي.

 

إعمار غزة أو إعادة إعمار غزة هو الشعار الأكثر شيوعاً في الوقت الحاضر أيضاً: "لنعمر غزة الآن، فالغزِّيون يستحقون حياة كريمة يعيشونها ...".  ولكن لحظة: "نحن لا نتفق كلياً مع المؤسسة السياسية السائدة هناك، كما أن إعمارها الآن لن يشكل حلاً، ستكون هذه فحسب مرحلة انتقالية للدمار الذي سيأتي لاحقاً".  ومع هذا الخطاب، لا شيء يمكن ضمانه سوى عدم انتهاء المأساة.  أنا، كغيري، سمعت عن خطط إعادة الإعمار العديدة، فما أن يقوم هجوم شرس على غزة حتى تبدأ المبادرات من خطط لإعادة إعمار المدينة، لا يعرف المرء ماذا يتناسب منها مع خصوصية غزة، وما هو منها خطط بعيدة بل شديدة البعد عن إمكانيات التنفيذ.

 

"سنعصركم ونفرغكم ثم نملأكم بأنفسنا" هذا هو الشعار الذي يعلنه معرض مدن 5: غزة، في متحف جامعة بيرزيت الذي تم تنظيمه في سياق قلنديا الدولي (من 5 تشرين الأول 2016 وحتى 15 تشرين الثاني 2016).  هو عنوان يكتفي بالتذكير بالخطاب العالمي السادي في هذا الشأن، حيث في كثير من المبادرات تكون عملية إعادة الإعمار مشروطة بتغير بنيوي سياسي في غزة، يعصر المدينة وأهلها ويفرغهم من كل إنسانية وكرامة وذاكرة، بعد تحويلهم إلى مبلغ نقدي.  المعرض بدوره، يحوي مجموعة من الأبحاث والأعمال الفنية التي تقدم وجهات نظر جديدة في ما يخص هذه الإشكالية.

 

مجموعة دار وستوديوازو، ٢٠١٦، العودة الى غزة، عمل تركيبي، معرض المدن ٥ “غزة - اعادة اعمار”، قيم المعرض يزيد عناني، متحف جامعة بيرزيت
مجموعة دار وستوديوازو، ٢٠١٦، العودة الى غزة، عمل تركيبي، معرض المدن ٥ “غزة - اعادة اعمار”، قيم المعرض يزيد عناني، متحف جامعة بيرزيت

تحاول هذه الأبحاث والأعمال المعروضة، التي أنتجها فنانون وطلاب جامعيون وأشخاص عاديون على حد سواء، إعادة هيكلة فكرة إعادة إعمار غزة من وجهة نظر الفلسطينيين أنفسهم، وكيف يمكنهم المساهمة في هذه العملية، بدل أن تكون فعلاً مفروضاً من الخارج.  وتتوزع هذه الأعمال والأبحاث في أربعة فصول يتكون منها المعرض، جزء منها تم عرضه في غاليري الدرج، وقسم في متحف الجامعة، في جامعة بيرزيت.  يحمل الفصل الأول عنوان "البحث عن البعد"، والفصل الثاني "الجغرافيا الممتدة"، والفصل الثالث "عين من الخارج"، والفصل الرابع "كتاب إعادة الإعمار".

 

أتوقف مطولاً أمام الفصل الثالث "عين من الخارج"، وهو بحث في معانٍ ومفاهيم مختلفة، مثل القوة مقارنة مع الضعف، والذات مقارنة مع الآخر، والماضي المجيد مقارنة مع الحاضر المهمش، إضافة إلى مفاهيم أخرى متعلقة بالسياق المعيشي الخاص بغزة.

 

في البحث في مفاهيم القوة والضعف، يأتي عمل توثيقي للفنان خالد جرار بعنوان "طائرة معلقة".  يحتوي العمل على مجموعة من الصور التي تظهر طائرات منظمة التحرير الفلسطينية ومطار غزة المدمر.  في الجزء الأول من العمل، هنالك مجموعة من الوثائق الرسمية الخاصة بالمهندس يوسف محمد نصار، أحد طياري منظمة التحرير، من ضمنها شهادات تدريب حصل عليها في الماضي من بلدان مختلفة، إضافة إلى ساعات الطيران التي قام بها.  باختصار، يوثق هذا الجزء من العمل فعلاً بات من المستحيل لأي فلسطيني الإتيان عليه في الوقت الحاضر.  كما لا بد أن نستنتج أن يوسف محمد نصار تحوّل إلى عاطل عن العمل، أو أنه انتقل للعمل في سماء أخرى غير سماء غزة، فالآن سماء غزة يمتلكها طيارون آخرون، لهم حرية الحركة في رحابها وتدمير المدينة تحتها والحياة فيها متى شاءوا.

 

الجزء الثاني من العمل يحوي صور الطائرات المروحية التي كانت تستخدم من قبل بعض أعضاء منظمة التحرير في غزة، ثم الطائرات ذاتها تبدو في صور أخرى مدمرة مهملة هي والمطار الذي قد حطت فوقه.  الجزء الثالث يضم صوراً أخرى تمثل محاولات يائسة في إعادة الحياة لبعض هذه الطائرات المروحية المدمرة من خلال تعليقها واستخدامها للتدريبات العسكرية، وبث صوت المروحيات عبر مكبرات صوت منتشرة حولها، إضافة إلى وضعها في أماكن عالية يسهل على العامة رؤيتها منها.

 

في عمل تركيبي آخر للفنانين ساندي هلال وأليساندرو بيتي، بعنوان "العودة إلى غزة"، تم عرض مجموعة من الفيديوهات التي تنوعت في الموضوعات والأوقات، مجبرة المشاهد أو المشاهدة على التنقل بين أزمنة وأزمات مختلفة.  من مقاطع الفيديو هذه خطاب الراحل ياسر عرفات بعد اتفاق طابا، الذي يؤكد فيه على أهمية استمرارية المفاوضات التي لا تنتهي، ثم شاب مسلح يؤكد على أهمية إعدام المتعاونين مع الاحتلال الإسرائيلي، وأخيراً فيديو يصور غرفة حمراء.  تتواجد الغرفة الحمراء في أحد مباني غزة المدمرة التي يسيطر اللون الرمادي الكئيب عليها وعلى محيطها.  ما هي هذه الغرفة الحمراء؟ ولماذا هي حمراء؟ سؤال يتم طرحه على مجموعة من الغزيين كجزء من العمل.  وتأتي الأجوبة في روايات مختلفة: "هي حمراء ليستدل عليها القمر الصناعي"، أو "الأحمر هذا يدل على أن هذا المبنى سيتفجر ذاتياً في الوقت المناسب".  وروايات أخرى وأخرى يتخللها الدم والدمار والحروب المستقبلية التي ستفتك بنا نحن والغرفة الحمراء.  إنها أجوبة تكشف أن كل تلك الحروب لم تدمر المباني والبنى التحتية وتسلب الحريات فحسب، ولكن قد تمكنت منا، من داخلنا، وأحدثت تشوهاً مروعاً فينا، فقد أنستنا هذه الحروب ماهيات أخرى للون الأحمر سوى الدم والموت، عدا عما أنستنا من أشياء أخرى.

 

مع ذلك، مختلف هذه الأعمال التي جاءت من غزة أو عنها كجزء من معرض "مدن 5"، ساهمت في إزاحة جزء من الضبابية التي اقترنت بالمدينة وبإعادة إعمارها.  إن تأمل هذه الأعمال والاستماع إليها في بعض الأحيان، كان كفيلاً بتحويلي إلى أحد المصورين لحظة التقاط صورة ما، أو حتى إلى مترجمة لأحد الصحافيين الساذجين أثناء تغطية المآسي المرافقة للهجمات على المدينة.  حقيقة، إن الأعمال في المعرض تم إنتاجها من قبل فنانين وطلاب وأناس عاديين جعلت علاقتنا بتلك المدينة، التي باتت أشد ما تكون بعداً عنا في الوقت الحالي، غنية بمجموع من الصور والأفكار، وحتى الأحاسيس.



 

عن المؤلفة

 

وُلدت لبنى طه ونشأت في مدينة الخليل، وانتقلت بعد ذلك للعيش في مدينة رام الله. درست اللّغة الإنجليزية وآدابها وعلم الاجتماع وحصلت على درجة البكالوريوس من جامعة بيرزيت. إضافة إلى الآداب درست لبنى الموسيقى الكلاسيكية وآلة التشلو في معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى. بعد ذلك عملت كمُترجمة لمجموعة من المؤسسات التنموية والثقافية في رام الله قبل الانتقال للعيش في كندا. الآن تعمل لبنى كقيّمة مساعدة في فيرب غاليري في أونتاريو، وتحضّر لشهادة الماجستير في الدراسات الثقافية من جامعة كوينز.